الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
وهي سنة ثمان وخمسين وستمائة على أنه حكم من سنة سبع شهرين وقتل قبل انقضاء السنة أيضًا بشهرين. فيها كانت كائنة التتار مع الملك المظفر قطز وغيره حسب ما تقدم ذكره من أنهم ملكوا حلب والشام ثم رحلوا عنها. وفيها غلت الأسعار بالبلاد الشامية. وفيها توفي الملك السعيد نجم الدين إيلغازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أبي المظفر أرتق بن أرسلان بن نجم الدين إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيغازي بن أرتق السلطان أبو الفتح صاحب ماردين كان ملكًا جليلًا كبير القدر شجاعًا جوادًا حازمًا ممدحًا. مات في ذي الحجة وملك ماردين بعده ابنه الملك المظفر رحمه الله. وفيها توفي الملك المعظم فخر الدين أبو المفاخر توران شاه ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد كبرت سنه وصار كبير البيت الأيوبي وكانت نفسه لا تحدثه بالوثوب على الأمر فلذلك عاش عيشًا رغدًا وطال عمره. وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام يعظمه ويحترمه ويثق به. وهو غير الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب. وقد تقدم قتل هذاك في كائنة دمياط وعد أيضا من ملوك مصر. وتوران شاه هذا هو ابن عم الملك الكامل محمد جد توران شاه هذاك. وهو أيضًا غير توران شاه ابن الملك الكامل محمد المعروف بأقسيس انتهى. ومولد توران شاه هذا بالقاهرة في سنة سبع وسبعين وخمسمائة ومات في شهر ربيع الأول من هذه السنة بحلب. وفيها قتل الأمير كتبغانوين مقدم عساكر التتار الذي قتل في الوقعة التي كانت بينه وبين المظفر قطز بعين جالوت المقدم ذكرها. كان كتبغانوين عظيما عند التتار يعتمدون على رأيه وشجاعته وتدبيره وكان بطلًا شجاعًا مقدامًا خبيرًا بالحروب وافتتاح الحصون والاستيلاء على الممالك وهو الذي فتح معظم بلاد العجم والعراق. وكان هولاكو ملك التتار يثق به ولا يخالفه فيما يشير إليه ويتبرك برأيه. يحكى عنه عجائب في حروبه وكانت مقتلته في يوم الجمعة خامس عشرين شهر رمضان في المصاف على عين جالوت. قلت: إلى سقر وبئس المصير ولقد استراح الإسلام منه فإنه شر عصابة على الإسلام وأهله. ولله الحمد على هلاكه. وفيها توفي الملك المظفر أبو المعالي ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر غازي بن أبي بكر محمد العادل بن أيوب صاحب ميافارقين وتلك البلاد. ملكها في سنة خمس وأربعين وستمائة عقيب وفاة والده ودام في الملك سنين إلى أن جفل من التتار بعد أن كان يداريهم سنين وقدم على الملك الناصر صلاح الدين يوسف بدمشق واستنجده على التتار فوعده الناصر بالنجدة وآخر الأمر أنه رجع إلى بلاده وحصره التتار بها نحو سنتين حتى استشهد بأيديهم - رحمه الله تعالى وعفا عنه -. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي واستشهد بحلب خلائق لا يحصون منهم إبراهيم بن خليل الأدمي. والرئيس أبو طالب عبد الرحمن ابن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن العجمي تحت عذاب التتار. وبدمشق عبد الله ابن بركات بن إبراهيم المعروف بابن الخشوعي في صفر. والعماد عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسي في شهر ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة. والملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين في شهر ربيع الأول وله إحدى وثمانون سنة. والشمس محمد بن عبد الهادي أخو العماد بقرية ساوية - من عمل نابلس - شهيدا. وقاضي القضاة صدر الدين أحمد ابن شمس الدين أبي البركات يحيى بن هبة الله ابن سني الدولة ببعلبك وقد قارب السبعين في جمادى الآخرة. وأبو الكرم لاحق بن عبد المنعم الأرتاحي بالقاهرة وله خمس وثمانون سنة. والحافظ المفيد محب الدين عبد الله بن أحمد المقدسي. والفقيه الكبير أبو عبد الله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله اليونيني في رمضان وله سبع وثمانون سنة في المحرم. والحافظ البليغ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي الكاتب المعروف بابن الأبار بتونس مقتولًا. والملك الكامل الشهيد ناصر الدين محمد ابن المظفر شهاب الدين غازي ابن العادل. والملك المظفر الشهيد سيف الدين قطز في ذي القعدة فتكوا به في الرمل. وصاحب الصبيبة الملك السعيد حسن ابن العزيز عثمان ابن العادل قتل صبرا يوم عين جالوت بأمر الملك المظفر. وفي آخرها صاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين إيلغازي بن أرتق. والملك كتبغانوين رأس التتار يوم عين جالوت قتله آقوش الشمسي. وحسام الدين محمد بن أبي علي الهذباني نائب السلطنة بمصر. والأمير مجير الدين أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وست عشرة إصبعا. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا. سلطنة الملك الظاهر بيبرس السلطان الملك القاهر ثم الظاهر ركن الدين أبو الفتوح بيبرس بن عبد الله البندقداري الصالحي النجمي الأيوبي التركي سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والأقطار الحجازية وهو الرابع من ملوك الترك. مولده في حدود العشرين وستمائة بصحراء القبجاق تخمينًا والقبجاق قبيلة عظيمة في الترك وهو بكسر القاف وسكون الباء ثانية الحروف وسكون الياء المثناة من تحتها ثم فتح الباء الموحدة وسكون الراء والسين المهملتين ومعناه باللغة التركية: أمير فهد. انتهى. قلت: أخذ بيبرس المذكور من بلاده وأبيع بدمشق للعماد الصائغ. ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحي البندقداري وبه سمي البندقداري. قلت: والعجيب أن علاء الدين أيدكين البندقداري المذكور عاش حتى صار من جملة أمراء الظاهر بيبرس هذا. على ما سيأتي ذكره مفصلا - إن شاء الله تعالى - حكى شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري الحموي قال. كان الأمير علاء الدين البندقداري الصالحي لما قبض عليه وأحضر إلى حماة واعتقل بجامع قلعتها اتفق حضور ركن الدين بيبرس مع تاجر وكان الملك المنصور - يعني صاحب حماة - إذ ذاك صبيًا وكان إذا أراد شراء رقيق تبصره الصاحبة والدته فأحضر بيبرس هذا مع آخر قرأتهما من وراء الستر فأمرت بشراء خشداشه وقالت: هذا الأسمر لا يكون بينك وبينه معاملة فإن في عينيه شرًا لائحًا فردتهما جميعًا فطلب البندقداري الغلامين يعني بيبرس ورفيقه فاشتراهما وهو معتقل ثم أفرج عنه فسار إلى مصرة وآل أمر ركن الدين إلى ما آل. وقال الذهبي: اشتراه الأمير علاء الدين البندقداري الصالحي فطلع بطلًا شجاعًا نجيبًا لا ينبغي أن يكون إلا عند ملك فأخذه الملك الصالح منه. وقيل: بقي بيبرس المذكور في ملك البندقداري حتى صادره أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب وأخذ بيبرس هذا فيما أخذه منه في المصادرة في شهر شوال سنة أربع وأربعين وستمائة. قلت: وهذا القول هو المشهور. ولما اشتراه الملك الصالح أعتقه وجعله من جملة مماليكه وقدمه على طائفة الجمدارية لما رأى من فطنته وذكائه وحضر مع أستاذه الملك الصالح واقعة دمياط. . وقال الشيخ عز الدين عمر بن علي بن إبراهيم بن شداد: أخبرني الأمير بدر الدين بيسري الشمسي أن مولد الملك الظاهر بأرض القبجاق سنة خمس وعشرين وستمائة تقريبا. وسبب انتقاله من وطنه إلى البلاد أن التتار لما أزمعوا على قصد بلادهم سنة تسع وثلاثين وستمائة وبلغهم ذلك كاتبوا أنس خان ملك أولاق أن يعبروا بحر سوداق إليه ليجيرهم من التتار فأجابهم إلى ذلك وأنزلهم واديا بين جبلين وكان عبورهم إليه في سنة أربعين وستمائة فلما اطمأن بهم المقام غدر بهم وشن الغارة عليهم فقتل منهم وسبى. قال بيسري: وكنت أنا والملك الظاهر فيمن أسر قال: وكان عمره إذ ذاك أربع عشرة سنة تقديرا فبيع فيمن بيع وحمل إلى سيواس ثم افترقنا واجتمعنا في حلب في خان ابن قليج ثم افترقنا فاتفق أن حمل إلى القاهرة فبيع على الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري وبقي في يده إلى أن انتقل عنه بالقبض عليه في جملة ما استرجعه الملك الصالح نجم الدين أيوب منه وذلك في شوال سنة أربع وأربعين وستمائة. قلت: وهذا القول مطابق لقولنا الذي ذكرناه. قال: ثم قدمه الملك الصالح على طائفة الجمدارية. انتهى. وقال غيره: ولما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب وملك بعده ابنه الملك المعظم توران شاه وقتل وأجمعوا على الأمير عز الدين أيبك التركماني وولوه الأتابكية ثم استقل بالملك وقتل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار ركب الملك الظاهر بيبرس هذا والبحرية وقصدوا قلعة الجبل فلما لم ينالوا مقصودهم خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للملك المعز أيبك التركماني ومهاجرين إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام. وهم: الملك الظاهر بيبرس هذا وسيف الدين بلبان الرشيدي وعز الدين أزدمر السيفي وشمس الدين سنقر الرومي وشمس الدين سنقر الأشقر وبدر الدين بيسري الشمسي وسيف الدين قلاوون الألفي وسيف الدين بلبان المستعرب وغيرهم فلما شارفوا دمشق سير إليهم الملك الناصر طيب قلوبهم فبعثوا فخر الدين إياز المقرئ يستحلفه لهم فحلف الناصر لهم ودخلوا دمشق في العشر الأخير من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة فأكرمهم الملك الناصر صلاح الدين وأطلق للملك الظاهر بيبرس ثلاثين ألف درهم وثلاثة قطر بغال وثلاثة قطر جمال وملبوسًا وفرق في بقية الجماعة الأموال والخلع على قدر مراتبهم. وكتب الملك المعز أيبك إلى الملك الناصر يحذره منهم ويغريه بهم فلم يصغ إليه الناصر ودام على إحسانه إليهم. وكان عين الناصر لبيبرس إقطاعًا بحلب فطلب الملك الظاهر بيبرس من الملك الناصر أن يعوضه عما كان له بحلب من الإقطاع بجييين وزرعين فأجابه الملك الناصر إلى ذلك فتوجه بيبرس إليها وعاد فاستشعر بيبرس من الملك الناصر بالغمر فتوجه بمن معه ومن تبعه من خشداشيته إلى الكرك واجتمعوا بصاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد فجهز الملك المغيث عسكره مع بيبرس المذكور وعدة من كان جهزه معه ستمائة فارس وخرج من عسكر مصر جماعة لملتقاه فأراد بيبرس كبسهم فوجدهم على أهبة ثم واقع المصريين فانكسر ولم ينج منهم إلا القليل فالذي نجا من الأعيان: بيبرس وبيليك الخازندار وأسر بلبان الرشيدي. وقد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة المعز مجملًا ولكن نذكره هنا مفصلًا. وعاد بيبرس هذا إلى الكرك وأقام بها فتواترت عليه كتب المصريين يحرضونه على قصد الديار المصرية وجاءه جماعة كثيرة من عسكر الملك الناصر. فأخذ بيبرس يطمع الملك المغيث صاحب الكرك في ملك مصر ولازال به حتى ركب معه بعسكره ونزل غزة. وندب الملك المعز أيبك عسكرًا لقتالهم وقدم على العسكر المصري مملوكه الأمير قطز والأمير أقطاي المستعرب وساروا وهرب من عسكر مصر إلى بيبرس والمغيث الأمير عز الدين أيبك الرومي والأمير بلبان الكافوري والأمير سنقر شاه العزيزي والأمير أيبك الخواشي والأمير بدر الدين برخان والأمير بغدي وأيبك الحموي وجمال الدين هارون القيمري والجميع أمراء واجتمعوا الجميع مع بيبرس والملك المغيث بغزة فقويت شوكتهما بهؤلاء. وساروا الجميع إلى الصالحية ولقوا عسكر مصر يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين فاستظهر عسكر بيبرس والمغيث أولًا ثم عادت الكسرة عليهم لثبات قطز المعزي وهرب الملك المغيث ولحقه بيبرس وأسر من عسكر بيبرس عز الدين أيبك الرومي وركن الدين منكورس الصيرفي وبلبان الكافوري وعز الدين أيبك الحموي وبدر الدين بلغان الأشرفي وجمال الدين هارون القيمري وسنقر شاه العزيزي وبهاء الدين أيدغدي الإسكندراني وبدر الدين برخان وبغدي وبيليك الخازندار الظاهري فضربت أعناق الجميع صبرًا ما خلا الخازندار فإن جمال الدين الجوكنداري شفع فيه وخيروه بين المقام والذهاب فاختار الذهاب إلى أستاذه فأطلق وتوجه إلى أستاذه ولما أن وصل الملك المغيث إلى الكرك حصل بينه وبين ركن الدين بيبرس هذا وحشة وأراد المغيث القبض عليه بعد أمور صدرت فأحس بيبرس بذلك وهرب وعاد إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام بعد أن استحلفه على أن يعطيه خبز مائة فارس من جملتها قصبة نابلس وجينين وزرعين فأجاب إلى نابلس لا غير. وكان قدومه على الناصر في شهر رجب سنة سبع وخمسين وستمائة ومعه الجماعة الذين حلف لهم الملك الناصر أيضًا وهم: بيسرى الشمسي وأيتمش السعدي وطيبرس الوزيري وآقوش الرومي الدوادار وكشتغدي الشمسي ولاجين الدرفيل وأيدغمش الحلبي وكشتغدي الشرفي وأيبك الشيخي وبيبرس خاص ترك الصغير وبلبان المهراني وسنجر الباشقردي وسنجر الهمامي وأرسلان الناصري ويكنى الخوارزمي وسيف الدين طمان الشقيري وأيبك العلائي ولاجين الشقيري وبلبان الأقسيسي وعلم الدين سلطان الإلدكزي فأكرمهم الملك الناصر ووفى لهم بما حلف. وداموا على ذلك حتى قبض الأمير قطز على ابن أستاذه الملك المنصور علي وتسلطن وتلقب بالملك المظفر قطز شرع بيبرس يحرض الملك الناصر على التوجه إلى الديار المصرية ليملكها فلم يجبه فكلمه بيبرس في أن يقدمه على أربعة آلاف فارس أو يقدم عليهم غيره ويتوجه بها إلى شط الفرات يمنع التتار من العبور إلى الشام فلم يمكنه ابن عمه الملك الصالح إسماعيل لباطن كان له مع التتار قاتله الله! فاستمر بيبرس عند الناصر إلى سنة ثمان وخمسين فارقه بمن معه وقصد الشهرزورية وتزوج منهم ثم أرسل إلى الملك المظفر قطز من استحلفه له فحلف قطز. ودخل بيبرس إلى القاهرة في يوم السبت الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين فركب الملك المظفر قطز للقائه وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قصبة قليوب. فلم تطل مدته بالقاهرة وتهيأ الملك المظفر قطز لقتال التتار وسير بيبرس هذا في عسكر أمامه كالجاليش ليتجسس أخبار التتار فكان أول ما وقعت عينه عليهم ناوشهم بالقتال. فلما انقضت الوقعة بعين جالوت تبعهم بيبرس هذا يقتل من وجده منهم إلى حمص ثم عاد فوافى الملك المظفر قطز بدمشق وكان وعده بنيابة حلب فأعطاها قطز لصاحب الموصل فحقد عليه بيبرس في الباطن واتفق على قتله مع جماعة لما عاد الملك المظفر إلى نحو الديار المصرية. والذين اتفقوا معه: بلبان الرشيدي وبهادر المعزي وبكتوت الجوكندار المعزي وبيدغان الركني وبلبان الهاروني وأنص الأصبهاني واتفقوا الجميع مع بيبرس على قتل الملك المظفر قطز وساروا معه نحو الديار المصرية إلى أن وصل الملك المظفر قطز إلى القصير وبقي بينه وبين الصالحية مرحلة ورحل العسكر طالبًا الصالحية وضرب دهليز السلطان بها. واتفق عند القصير أن ثارت أرنب فساق المظفر قطز وساق هؤلاء المتفقون على قتله معه فلما أبعدوا ولم يبق مع المظفر غيرهم تقدم إليه ركن الدين بيبرس وشفع عنده في إنسان فأجابه المظفر فأهوى بيبرس ليقبل يده فقبض عليها وحمل أنص عليه وقد أشغل بيبرس يده وضربه أنص بالسيف وحمل الباقون عليه ورموه عن فرسه ورشقوه بالنشاب إلى أن مات ثم حملوا على العسكر وهم شاهرون سيوفهم حتى وصلوا إلى الدهليز السلطاني فنزلوا ودخلوه والأتابك على باب الدهليز فأخبروه بما فعلوا فقال فارس الدين الأتابك: من قتله منكم فقال بيبرس: أنا فقال: يا خوند اجلس في مرتبة السلطنة فجلس واستدعيت العساكر للحلف وكان القاضي برهان الدين قد وصل إلى العسكر متلقيا للملك المظفر قطز فاستدعي وحلف العسكر للملك الظاهر بيبرس وتم أمره في السلطنة وأطاعته العساكر ثم ركب وساق في جماعة من أصحابه حتى وصل إلى قلعة الجبل فدخلها من غير ممانع واستقر ملكه. وكانت البلد قد زينت للملك المظفر فاستمرت الزينة. وكان الذي ركب معه من الصالحية إلى القلعة وهم خواصه من خشداشيته وهم: فارس الدين الأتابك وبيسرى وقلاوون الألفي وبيليك الخازندار وبلبان الرشيدي ثم في يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة وهو صبيحة قتل المظفر قطز وهو أول يوم من سلطنة الظاهر بيبرس جلس بالإيوان من قلعة الجبل. قلت: ولم يذكر أحد من المؤرخين لبسه خلعة السلطنة الخليفتي ولعله اكتفى بالمبايعة والحلف. انتهى. ولما جلس الظاهر بالإيوان رسم أن يكتب إلى الأقطار بسلطنته فأول من بدأ به الملك الأشرف صاحب حمص ثم الملك المنصور صاحب حماة ثم الأمير مظفر الدين صاحب صهيون ثم إلى الإسماعيلية ثم إلى الملك السعيد المظفر علاء الدين علي بن لؤلؤ صاحب الموصل الذي صار نائب السلطنة بحلب ثم إلى من في بلاد الشام يعرفهم بما جرى. ثم أفرج عمن بالحبوس من أصحاب الجرائم وأقر الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير على الوزارة وتقدم بالإفراج عن الأجناد المحبوسين والإنعام عليهم وزيادة من رأى استحقاقه من الأمراء وخلع عليهم وسير الأمير جمال الدين آقوش المحمدي بتواقيع للأمير سنجر الحلبي نائب دمشق فتوجه إليه فوجده قد تسلطن بدمشق ودعا لنفسه وحلف الأمراء وتلقب بالملك المجاهد فعظم ذلك على الملك الظاهر بيبرس وأخذ في إصلاح أمره معه والإحسان إلى خشداشيته البحرية الصالحية وأمر أعيانهم. ثم إنه أخرج الملك المنصور نور الدين عليًا ابن الملك المعز أيبك التركماني وأمه وأخاه ناصر الدين قاقان من مصر إلى بلاد الأشكري وكانوا معتقلين بقلعة الجبل. وكان بيبرس لما تسلطن لقب نفسه الملك القاهر فقال الوزير زين الدين يعقوب بن الزبير وكان فاضلًا في الأدب والترسل وعلم التاريخ فأشار بتغيير هذا اللقب وقال: ما لقب به أحد فأفلح: لقب به القاهر ابن المعتضد فلم تطل مدته وخلع من الخلافة وسمل ولقب به القاهر ابن صاحب الموصل فسم فأبطل بيبرس اللقب الأول وتلقب بالملك الظاهر. وأما أمر دمشق ففي العشر الأخير من ذي القعدة أمر الأمير عليم الدين سنجر الحلبي الذي تسلطن بدمشق بتجديد عمارة قلعة دمشق وزفت بالمغاني والطبول والبوقات وفرحت أهل دمشق بذلك وحضر كبراء الدولة وخلع على الصناع والنقباء وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديدها يوما مشهودًا. ثم في اليوم الأول من العشر الأول من ذي الحجة دعا الأمير علم الدين سنجر الحلبي الناس بدمشق إلى الحلف له بالسلطنة فأجابوه وحضر الجند والأكابر وحلفوا له ولقب بالملك المجاهد وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وكاتب الملك المنصور صاحب حماة ليحلف له فامتنع وقال: أنا مع من يملك الديار المصرية كائنًا من كان. ولما صح عند التتار قتل الملك المظفر قطز - رحمه الله تعالى - وكان النائب ابن صاحب الموصل أساء السيرة في الجند والرعية فاجتمع رأي الأمراء والجند بحلب على قبضه وإخراجه من حلب وتحالفوا على ذلك وعينوا للقيام بالأمر الأمير حسام الدين الجوكنداري العزيزي فبينما هم على ذلك وردت عليهم بطاقة نائب البيرة يحبر أن التتار قاربوا البيرة لمحاصرتها واستصرخ بهم لينجدوه بعسكر. وكان التتار قد هدموا أبراج البيرة وأسوارها وهي مكشوفة من جميع جهاتها فجرد الملك السعيد ابن صاحب الموصل الذي هو نائب حلب عسكره إليها وقدم عليهم الأمير سابق الدين أمير مجلس الناصري فحضر الأمراء عنده وقالوا له: هذا العسكر الذي جردته لا يمكنه رد العدو ونخاف أن يحصل النشوب بيننا وبين العدو وعسكرنا قليل فيصل العدو إلى حلب ويكون ذلك سببا لخروجنا منها فلم يقبل منهم فخرجوا من عنده وهم غضبانون وسار العسكر المذكور إلى البيرة في قلة. فلما وصلوا إلى عمق البيرة صادفوا التتار بجموعهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا وقصد سابق الدين البيرة فتبعه التتار وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة وما سلم منهم إلا القليل وورد هذا الخبر لحلب فجفل أهل حلب إلى جهة القبلة ولم يبق بها إلا القليل. وندم الملك السعيد نائب حلب على مخالفة الأمراء وقوي بذلك غضبهم عليه وقاطعوه. ووقعت بطاقة نائب البيرة فيها أن التتار توجهوا إلى ناحية منبج فخرج نائب حلب وضرب دهليزه بباب إله شرقي حلب. وبعد يومين وصل الأمير عز الدين أزدمر الدوادار الغزيزي وكان قطز قد جعله نائبا باللاذقية وجبلة فقصده خشداشيته بحلب فلما قرب ركبت العزيزية والناصرية والتقوا به فأخبرهم بأن الملك المظفر قطز قتل وأن ركن الدين بيبرس ملك الديار المصرية وأن سنجر الحلبي خطب لنفسه بدمشق ونحن أيضا نعمل بعمل أولئك ونقيم واحدا من الجماعة ونقبض على هذا - يعني على نائب حلب - ونقتصر على حلب وبلادها مملكة أستاذنا وابن أستاذنا فأجابوه إلى ذلك وتقرر بينهم أنه حال دخولهم إلى المخيم يمضي إليه الأمراء: حسام الدين الجوكنداري وبكتمرالساقي وأزدمر الدوادار وكان الملك السعيد نائب حلب نازلًا بباب لا في بيت القاضي وهو فوق سطحه والعساكر حوله فعندما طلعوا إليه وحضروا عنده على السطح شرعت أعوانهم في نهب وطاقه فسمع الضجة فاعتقد أن التتار قد كبست العسكر تم شاهد لهب العزيرية والناصرية لوطاقه ووثب الأمراء الذين عنده ليقبضوا عليه فطلب منهم الأمان على نفسه فأمنوه وشرطوا عليه أن يسلم إليهم جميع ما حصله من الأموال. ثم نزلوا به إلى الدار وقصدوا الخزانة فما وجدوا فيها طائلا فهددوه وقالوا له: أين الأموال التي حصلتها وطلبوا قتله فقام إلى ساحة بستان في الدار المذكورة وحفر وأخرج الأموال وهي تزيد على أربعين ألف دينار ففرقت على الأمراء على قدر منازلهم. ثم رسموا عليه جماعة من الجند وسيروه إلى قلعة حبسوه بها. ثم بعد أيام قلائل دهم العدو حلب فاندفع الأمير حسام الدين الخوكنداري المقدم على عسكر حلب بمن معه إلى جهة دمشق ودخلت التتار حلب وأخرجوا من كان فيها إلى ظاهر حلب ووضعوا السيف فيهم فقتل بعضهم وفر بعضهم. ونزل العسكر الحلبي بظاهر حماة فقام الملك المنصور بضيافتهم ثم تقدم التتار إلى حماة فلما قاربوا منها رحل صاحبها الملك المنصور ومعه الجوكنداري بعساكر حلب إلى حمص ونزل التتار على حماة فامتنعت عليهم فاندفعوا من حماة طالبين العسكر وجفل الناس بين أيديهم وخاف أهل دمشق خوفًا شديدًا وأقاموا الجميع على حمص حتى قدم إليهم التتار في أوائل المحرم من سنة تسع وخمسين وستمائة وكانوا في ستة آلاف فارس فخرج إليهم الملك المنصور صاحب حماة والأشرف صاحب حمص والجوكنداري العزيزي بعساكر حلب وحملوا عليهم حملة رجل واحد فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب الأمير بيدرا مقدم التتار في نفر يسير وكانت الوقعة عند قبر خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ثم عاد التتار إلى حلب وفعلوا بأهلها تلك الأفعال القبيحة على عادتهم. وأما الملك الطاهر بيبرس صاحب الترجمة فإنه كاتب أمراء دمشق يستميلهم إليه ويحضهم على منابذة الأمير علم الدين سنجر الحلبي والقبض عليه فأجابوه إلى ذلك وخرجوا من دمشق منابذين لسنجر وفيهم: الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري - أعني أستاذ الملك الظاهر بيبرس المذكور - الذي قدمنا من ذكره أن الملك الصالح نجم الدين أيوب اشتراه منه. انتهى. والأمير بهاء الدين بغدي فتبعهم الحلبي بمن بقي معه من أصحابه فحاربوه فهزموه وألجؤوه إلى قلعة دمشق فأغلقها دونهم وذلك في يوم السبت حادي عشر صفر من السنة. ثم خرج الأمير علم الدين سنجر الحلبي تلك الليلة من القلعة وقصد بعلبك فدخل قلعتها ومعه قريب عشرين نفرًا من مماليكه فدخل الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري دمشق واستولى عليها وحكم فيها نيابة عن الملك الظاهر بيبرس ثم جهز عسكرًا إلى بعلبك لحصار الحلبي وعليهم الأمير بدر الدين محمد بن رحال وكان من الشجعان وأمير آخر فحال وصولهما إلى بعلبك دخلا المدينة ونزلا بالمدرسة النورية. وكان الحلبي لما وصلها جعل عنده طائفة كبيرة من أهل محله مقدمهم علي بن عبور فسير إليهم الأمير بدر الدين بن رحال وأفسدهم فتدلوا من القلعة ليلًا ونزلوا إليه فعند ذلك ترددت المراسلات بين الحلبي وعلاء الدين البندقداري حتى استقر الحال على نزول الحلبي وتوجهه إلى الملك الظاهر بيبرس بمصر فخرج الحلبي من قلعة بعلبك راكبا في وسطه عدته وفي قرابه قوسان وهو كالأسد فجاء حتى بعد عن القلعة قدم له بغلة فتحول إليها وقلع العدة وركبها وسار حتى وصل إلى دمشق وسار منها إلى مصر فأدخل على الملك ليلًا بقلعة الجبل فقام إليه واعتنقه وأدنى مجلسه منه وعاتبه عتابًا لطيفًا ثم خلع عليه ورسم له بخيل وبغال وجمال وقماش وغير ذلك. ثم التفت الملك الظاهر إلى إصلاح مملكته خلع على الصاحب بهاء الدين علي بن حنا وزير شجرة الدر بالوزارة وذلك في شهر ربيع الأول من سنة تسع وخمسين وهي أول ولايته للوزر. ثم حضر عند الظاهر شخص وأنهى إليه أن الأمير عز الدين الصقلي يريد الوثوب على السلطان واتفق معه الأمير علم الدين سنجر الغتمي وبهادر المعزي والشجاع بكتوت فقبض الملك الظاهر عليهم. ثم تسلم الملك الظاهر الكرك من نواب الملك المغيث في هذه السنة. ثم قبض على الأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي وحمل إلى القاهرة وحبس بقلعة الجبل إلى أن مات. ثم جهز الملك الظاهر عسكرا لخروج التتار من حلب فساروا إليها وأخرجوهم منها على أقبح وجه كل ذلك والدنيا بلا خليفة من سنة ست وخمسين وستمائة. ففي هذه السنة كان وصول المستنصر بالله الخليفة إلى مصر وبايعه الملك الظاهر بيبرس وهو أبو القاسم أحمد كان محبوسا ببغداد مع جماعة من بني العباس في حبس الخليفة المستعصم فلما ملكت التتار بغداد أطلقوهم فخرج المستنصر هذا إلى عرب العراق واختلط بهم إلى أن سمع بسلطنة الملك الظاهر بيبرس وفد عليه مع جماعة من بني مهارش وهم عشرة أمراء مقدمهم ابن قسا وشرف اللين ابن مهنا وكان وصول المستنصر إلى القاهرة في ثامن شهر رجب من سنة تسع وخمسين وستمائة فركب السلطان للقائه ومعه الوزير بهاء الدين بن حنا وقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز والشهود والرؤساء والقراء والمؤذنون واليهود بالتوراة والنصارى بالإنجيل في يوم الخميس فدخل من باب النصر وشق القاهرة وكان لدخوله يوم مشهود. فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر الشهر جلس السلطان الملك الظاهر والخليفة بالإيوان وأعيان الدولة بأجمعهم وقرئ نسب الخليفة وشهد عند القاضي بصحته فأسجل عليه بذلك وحكم به وبويع بالخلافة. وركب من يومه وشق القاهرة في وجوه الدولة وأعيانها. وكان أول من بايعه قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز عندما ثبت نسبه عنده ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام ثم الأمراء والوزراء على مراتبهم. والمستنصر هذا هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس - رضي الله عنهم - وهو المستنصر بالله أبو القاسم أحمد الأسمر بن الظاهر بأمر الله محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء الحسن ابن الخليفة المستنجد بالله يوسف ابن الخليفة المقتفي لأمر الله محمد ابن الخليفة المستظهر بالله أحمد ابن الخليفة المقتدي بأمر الله عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة ابن الخليفة القائم بأمر الله عبد الله ابن الخليفة القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد بالله أحمد ابن الأمير طلحة الموفق ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدي محمد ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي البغدادي. وقد تقدم أن الناس كانوا بغير خليفة منذ قتل التتار ابن أخيه الخليفة المستعصم بالله في أوائل سنة ست وخمسين وستمائة إلى يومنا هذا فكانت مدة شغور الخلافة ثلاث سنين ونصفا والناس بلا خليفة. وكان المستنصر هذا جسيمًا وسيمًا شديد السمرة عالي الهمة شديد القوة وعنده شجاعة وإقدام وهو أخو الخليفة المستنصر ولقب بلقبه وهذا لم تجر به العادة من أن خليفة يلقب بلقب خليفة تقدمه من أهل بيته.
|